يتسع مفهوم الخطاب الإسلامي عند بعض دارسيه ليشمل كل مجالات الإنتاج الفكري والفقهي للمسلمين، أي كل ما عدا النص الموحى به، من جهد معرفي يتمحور حول هذا النص. كما يضيق عند فريق آخر ليتخصص فقط في طرق تقديم الإسلام والفكر الإسلامي إلى العالم كله مسلميه وغيرهم. وهو بهذا المعنى الأخير، يقتات على علوم ستة، محددة هي: »تحليل الخطاب »و »علم الخطاب »و »نظرية التواصل »و »النظرية التداولية »و »علم البلاغة »و »لسانيات النص
ويمكن أن نرصد إجمالا، خصائص الخطاب الإسلامي المعاصر، بالنظر إلى طبيعة مناطه، فالإسلام دين الوسط للأمة الوسط، وخطابه في عمومه وسط، إلا أنه يعاني من »طرفيه المذمومين »(بما أن الوسطية توسط بين طرفين مذمومين): طرف أقصى اليسار: »يهدم الماضي باسم ما يتصوره مستقبلا حقا » وطرف أقصى اليمين: »يهدم المستقبل باسم ما يتصوره ماضيا حقا »!
وأستأذن لأسباب منهجية في الاقتصار على تشخيص اختلالات الطرف أقصى اليمين، بما أنه موضوع البحث، أي الخطاب »الإسلامي » المعاصر. وأهم هذه الاختلالات، تتجلى في كونه خطاب لا واقعي ولا شرعي ولا عقلي. فهو لا يراعي مقتضيات الواقع في أبسط تشكلاتها، فأحرى أن يستحضر تعقيداتها. وهو لا يستند إلى ضوابط الشرع وسيرة السلف الصالح، رغم زعمه المتواصل بأنه الممثل احتكارا لهذا الخط. وهو لا يُعمل قواعد العقل المشتركة بين أفراد الإنسانية بداهة وابتداء. والأدهى من ذلك، أنه يُستغل من قبل العين الإعلامية والسياسية وحتى الأكاديمية الراصدة بل والمتربصة بالخطاب الإسلامي، لتستمد من زلاته مادة متجددة لصورة نمطية جاهزة سلفا، تعمل لاستمرار انقطاع شعوب الغرب عن الإسلام، وتسعى لتبرير الاعتداء على المسلمين بهذه الزلات. وبذلك يكون على هذا الطرف المذموم، مسؤولية التشويش على الوظيفة السامية للخطاب الإسلامي، والمتمثلة في هذه المرحلة الحرجة، في »تحرير المسلمين، بحيث يؤدون دورا تاريخيا مناسبا لمقتضيات العصر، ومحققا لقيم الإسلام الحقيقية ».
تجليات سلبية
دون ذكر أشخاص أو تعيين هيآت، نستعرض جوانب من هذا التشخيص، مبادرين إلى الإشارة إلى أن هذا الخطاب يفتقر للحدود الضرورية الدنيا من المعرفة بعلوم يستحيل معها نجاح خطاب، أي خطاب، فأحرى خطاب إسلامي في زمن العولمة والاستضعاف. وأقصد نجاح هذا الخطاب في أن ينجو من مطبات التربص الاستكباري، فأحرى أن يؤدي وظيفته البانية. وعلى رأس هذه العلوم، علم البلاغة انتماء للذات، وعلم الخطاب انتماء للعصر!:
أ-درس من علم البلاغة:
-إن أبسط ما تعلمنا البلاغة، هي قاعدة »المقام »الكبرى، وهي »مطابقة الكلام لمقتضى الحال ». فهل من احترام »مقتضى الحال »الاستمرار مثلا في الدعاء، فوق المنابر، على الكفار، مطلق الكفار، دون تمييز بين معتد ومسالم، بأدعية مزلزلة على منابر الجمعة، حتى في بلاد هؤلاء »الكفار »، من قبيل »اللهم يتم أبناءهم ورمل نساءهم، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين »، وهل من فقه »مقتضى الحال » أن يخطب خطيب في مسجد بالنمسا، مخاطبا غير الحاضرين من أهل البلد، قائلا: »يا معشر أهل النمسا، والله ليس لكم منا إلا ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال »! وهو اللاجئ المضطهد في بلاده الأصلية، بدون أوراق ثبوتية، ينتظر بما يجاب به طلبه عن اللجوء السياسي، من قبل هؤلاء الذين يقدم لهم هذه الخيارات الثلاث!
وهل من مقتضى الحال، تعليق ملصقات، عن علامات المرور الضوئية بشوارع لندن، تقول: »يا معشر الإنجليز لقد بعثنا لكم بالذبح »!، أو إلقاء الخطب المطولة العصماء، على منابر الجمعة، على جموع المصلين، في النهي عن ترك الصلاة وشرب الخمر وفعل قوم لوط! مخاطَبا بها هؤلاء المصلين!
-ولو أخذنا »التشبيه » مثلا، كأوضح ركن من أركان البلاغة، فإن تشبيها للمتبرجات الاستراليات، يحيل على حساسية شديدة في اللغة الإنجليزية، كاد أن يكلِّف المفتي دوره وموقعه بل ومقامه بالبلاد، وارتد على المسلمين هناك بالحرج الشديد، لأن الشيخ لم ينتبه إلى أن »حساسية التشبيه، التي ارتبطت ضمن حساسية أوسع بفكرة التراث أو التقاليد أو التنازع غير الموجه أو غير المحدود، الذي طغى على تيارات لغوية فنية معينة، وتيارات اجتماعية أيضا » لأن »كل مظهر لغوي مهم، يؤدي دورا في توتر أساسي ذي طابع اجتماعي »، ذلك أننا »يمكن أن نرى في اللغة وطرق تناولها تعبيرا غير مباشر عن حاجات عميقة تتعرض للامتحان العسير، ويمكن أن نرى في اللغة والتفسير والتواصل إيماء إلى مخاوف وآمال اجتماعية بعضها غير منظور »
والعجيب أن رجلا عالما بمقتضى الخطاب، كالداعية الموفق أحمد ديدات رحمه الله، وقف بالمقابل على التشبيه نفسه عند سلمان رشدي، تجاه الانجليز، فكشفه في محاضراته ببريطانيا عن »الآيات الشيطانية »، مما ألب طبقة المثقفين ضد المؤلف، بعدما كانوا يساندونه نكاية في المسلمين، حتى كاد الرأي العام الانجليزي ينقلب على سلمان رشدي، لولا مسارعة السلطات البريطانية إلى منع الشيخ من الاستمرار في إلقاء محاضراته، وطرده خارج البلاد، رغم جوازه البريطاني!
»والحقيقة أن البلاغة تحفل بفحص بعض ملامح النشاط الاجتماعي ولدينا في كتابات الجاحظ ملاحظات عن ممارسات الخطاب في المجتمع وتأثيرها من قبيل الالتماس أو الإقناع أو التحريض.إن اللغة ليست مجرد انعكاس لظروف اجتماعية، إنها تصنع هذه الظروف إلى حد ما، وتهيئ لنوع من التعامل معها »
-وإن أخطر ما في الخطاب، هو الشق غير المنطوق، أي »دلالة اللزوم »، فحين تأمر »بغلق الباب »، فالأهم من هذا الأمر، هو دلالته على أن »الباب مفتوح »!، وأهم منه أنك تؤشر على حالة صحية(نزلة برد أو حالة أمنية مسارة شخص للبوح بسر أو حالة نفسية الخوف من الدخيل.
وفي الغالب ما يتجاهل ممارسو هذا الخطاب هذه الحقيقة، هذا إن لم يكونوا يجهلونها، فحين يقول أحد زعمائهم، أن مقامه ببريطانيا رغم كفر أهلها، هو من باب الضرورة كالدخول إلى بيت الخلاء، ويتلفظ بهذا التشبيه في التلفزيون البريطاني، تهتز جوانب الرأي العالم لهذه الجهالة، اهتزازا يكلف الوجود الإسلامي ببريطانيا، بل والإسلام نفسه غاليا.
بالمقابل فحين تهاجم آن سنكلير في برنامجها الشهير، على القناة الثانية الفرنسية »سبعة على سبعة »، الرئيس شيراك، عقب تفجيرات مترو باريس سنة ,1996 متهمة إياه بدعم »الديكتاتورية العسكرية بالجزائر »، حسب تعبيرها، فهي إنما تقصد في الحقيقة إلى تثبيت تهمة التفجيرات على اللاجئين الجزائريين من جبهة الإنقاذ بفرنسا، وهذا من الدهاء الصهيوني الذي قيض له بلاد الغرب من يفضحه بطرق علمية دقيقة، مثل العالم بيير بورديو وناعوم تشو مسكي وهربرت شللر وجيري ما ندرز وجون كلود شوزني صاحب شعار: لن نخدع بعد اليوم، من المتخصصين في علم اجتماع الإعلام، الماهرين في كشف »تلاعب الخطاب الإعلامي بالعقول ». وما أحوج دعاة الإسلام اليوم إلى إتقان هذا العلم، والاطلاع على كتب هؤلاء وأمثالهم، وهم كثر في الغرب ممن تخصصوا في كشف العلاقة بين اللغة والسياسة، وحساسيات الخطاب الإعلامي في تداخله بألاعيب البلاغة المدججة بالمصطلحات المنحوتة والمفاهيم المصنوعة بدقة ماكرة.
بالمقابل، لقد كان زعيم سياسي كبير، رحمه الله، يكثر من استعمال كلمة »الجبارين » في صراعه الخطابي مع العدو الصهيوني المحتل، غير منتبه ولا مُنَبه إلى المرجعية السلبية جدا لهذه »الاستعارة التاريخية » غير الموفقة بتاتا وذلك، سواء عند الخصم في التوراة أو عند الحليف في القرآن!
ب- درس من علم الخطاب المعاصر:
وإن أبسط ما نتعلم من علم الخطاب المعاصر، هو نظرية الوظائف اللغوية الستة لرومان ياكبسون، والتي تُنَبه منتج الخطاب إلى ست وظائف للغة، غالبا ما لا ينتبه إلا لواحدة منها، وهي »الوظيفة المرجعية »المتعلقة بمضمون الخطاب، أما الوظائف الخمس الأخرى، والتي قد تكون آثارها سلبية إن لم ينتبه لوجودها، والتي قد تَعْلق ببال المتلقي وتؤثر فيه أكثر، فغالبا ما لا يفقهها هؤلاء الدعاة وهي: الوظيفة الانفعالية، والوظيفة الشعرية والوظيفة الإيعازية والوظيفة الفوق-لغوية، والوظيفة اللَّغْوية. وهذه الوظائف الست تنتج من تفاعل عناصر التواصل الخطابي الثلاث: المرسل-الرسالة-المرسل إليه.
على سبيل المقارنة: نماذج مضيئة
مما يزيد المرء أسى، أن يغفل من يباهون بالسلف، عن نجاحات السلف الصالح رضوان الله عليهم، فيما فشلوا هم فيه فشلا ذريعا، لأنهم مارسوا عكسه تماما. إن من نماذج الخطاب الإسلامي الموفق بل الباهر، خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي، بين يدي حاشيته ووفد قريش، والذي كان فتحا للمسلمين في تلك البلاد. ولا بأس أن نعرض مقطعا مهما منه، ينسخ ما أثقلنا به من نماذج سلبية:
» قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من: {كهيعص} فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نَخَرْتُم والله .
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر: الجبل بلسان الحبشة. »
ولنلاحظ الذكاء الاستراتيجي الذي تسلح به جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) في خطابه هذا، فقد قسم حديثه إلى أربعة أقسام فاعلة على وجازتها، وأحسن فيها كلها: أحسن عرض »الرسالة »، وأحسن عرض »المظلمة »، وأحسن عرض »الاستجارة »، وأخيرا أحسن عرض »الاستشهاد »بآيات تمس وتر المسيحي مسا آسرا لحديثها الشجي عن زكرياء ويحيى ومريم وعيسى. لكن الإحسان الأكبر قبل هذا كله – كان حسن اختيار المخاطَب الذي يتلقى بالإيجاب هذا الإتقان الباهر، وهو الاختيار النبوي »للرجل العادل »!
وقد كان تلقائيا وطبيعيا بعد هذا الانجاز الناجح، أن تأتي الاستجابة إيجابا لا سلبا: فشل السفارة القرشية، والتمكين للمستضعفين في أرض المهجر الحبشية!
ولا يعني في شيء، حسن اختيار جعفر الطيار للمواضيع الموافقة لحس المخاطب، أن يحرف الحقيقة أو يسقط في المداهنة والنفاق. فحين استطاع سفير قريش الداهية عمرو بن العاص أن يثير النقطة الحساسة في الخلاف المسيحي- الإسلامي، فيما يتعلق بطبيعة المسيح، لم يجد جعفر الطيار بدا من ذكر الحقيقة، ومن القرآن نفسه. ولكن الله سلم لأن الصدق مع اللطف يوصلان إلى النجاة.
ولو شئنا بعد استعراض هذا النموذج الباهر، وعلى هداه، أن نكتشف حجم الانتكاس الذي يعانيه الخطاب الإسلامي المعاصر، عند بعض الدعاة الفاشلين، والذي هو نقيض هذا الإنجاز الجعفري المتميز، لأوردنا على سبيل المثال ما حكاه جيفري لانغ، عالم الرياضيات الأمريكي العظيم، من جامعة شيكاغو، الذي هداه الله إلى الإسلام بعد معاناة فكرية ونفسية تأملية عميقة، سجلها في كتابه المتميز: »الصراع من أجل الإيمان ». إذ ذكر أنه في مرحلة الصراع النفسي الحرج بين ماضيه الإلحادي وإقباله على الإسلام، وهو يقرأ كل ليلة في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وتعذبه الأسئلة كما تحيره الأجوبة، وجد نفسه ذات يوم يذرع أروقة الجامعة بحثا عن مسلم يساعده على تلمس طريقه، فأرشدوه إلى غرفة صغيرة في زاوية نائية، يصلي فيها بعض الطلبة المسلمين المنتمين للجامعة، فدخل عليهم متلهفا يسألهم أن يشرحوا له الإسلام، فإذا بهم يشيرون إلى أحدهم وهو طالب آسيوي، يقوم بدور الإمام والمرشد تطوعا لدى هذه المجموعة الصغيرة. لكن الصدمة التي كادت أن تصرف جيفري لانغ عن الإسلام لولا لطف الله وجديته في البحث، وتقدمه في الاحتكاك بالقرآن، أن »الإمام » شرع فورا يشرح له »كيف يعذب الله الكفار في قبورهم’! ولا يحتاج المرء إلى كبير ذكاء ولا قليل علم بالخطاب، كي يقارن بين عظمة الاختيار للقضايا التي طرحها جعفر الطيار، وبين بؤس هذا الاختيار.
نمـوذج تطبيقي
استرواحا لهذا النفس العطر لدى السلف الصالح، وسعيا إلى المنحى التطبيقي، أقترح نموذجا موجزا للخطاب الإسلامي الجامع، ينأى عن الخلافيات والخرافيات والجزئيات والإسرائيليات، ويجافي النزعات المذهبية والطائفية والإقليمية والعرقية، ويتجنب التعصب والإغراق الذاتي أو الغرق التغريبي، ويصلح لمخاطبة المسلمين وغير المسلمين. تقوم فيه الفروع على الأصول وتترتب فيه الأولويات: عقيدة فشريعة فأخلاقا فأبعادا حضارية:
هذا هو الإسلام:
1 – دينُ الخضوعِ لله الواحد الأحد، الكبيرِ المتعال، فله وحده التسليمُ والخضوع، ولا مجالَ لطاغوتٍ حَجَري ولا بشري، أن يتسلط على عباده، ليَدِينوا لأهوائه ومصالحه بالخضوع والقرابين. فالناسُ سواسيةٌ كأسنان المشط، رَفَعَ دينُ التوحيدِ رؤوسَهم في وجه التسلط والاستعباد، فلا كهنوتَ ولا استبداد .
2 – دينُ »إقرأ »، القائِم على العقل، والقائِدِ إلى العلم، والمعتمد على المنطق والاستدلال. الـحُجَّةُ فيه عمدة، والعقلُ فيه مُقَدَّم، والتأملُ فيه عبادة، والتفكيرُ فيه فريضة، الشعار فيه: + إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعِياً فالدليل؛. لا قطيعيةَ فيه، ولا وساطةَ بين الحق والخلق عنده، ولا امتيازَ لطبقة دينية أو سياسية تنوبُ عن بقية العباد في التفكير والتقرير، أو تحتكر دونهم حقَّ الاتصال بالنص المقدس، أو امتيازَ تأويلِه وفهمِه.
– 3دينُ تكريم الإنسان، بالآدمية والحرية والمسؤولية والعقلِ والتكليف. اصطفاه الله لخلافته في الأرض، وجعله سيداً للكون، وسخَّر له ما فيه من نِعَم وإمكانات، يوظفها بالقصد، دون تبذير ولا احتكار، ودون إنهاك للبيئة أو ظُلْمٍ لِحَقِّ بقية المخلوقات فيها.
هذا التكريم يلزم بِصَوْنِ حُرمة الإنسان: دمِه ومالِه وعرضِه، وضمانِ حريته في الاعتقاد والاختلاف والتفكير والاجتهاد. شعارُه:( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟) ؛ ومبدؤه: »حُرْمَة المؤمن عند الله أعظم من حرمة البيت الحرام ».
4 – دين السلام والحب والتعاون والتسامح والرحمة والانفتاح والحوار والاختلاف المشروع. فهو الذي يُصَدِّر موقفَه من الديانات السابقة بمبدأ »التَّصْدِيق » قبل مبدأ »الهيمنة »:{ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة: 48، وهي فقط هيمنةُ استيعاب وتسديد لا هيمنة إقصاء وإنكار. وهو الذي يدعو إلى أقصى درجات البر والإحسان بالمخالف والصفح والعفو عن المسيء، إلا في حالة العدوان القصوى وهي »القتال في الدين والإخراج من الديار » . وماذا بعد الإبادة المادية والمعنوية يتعرض لها المسلم، فتوجب عليه المقاومة والقتال لصد المعتدي الحاقد؟
– 5هذا ديننا، دين الحق الهْدَى إلى الخلق. دينُ جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. دين الله الواحد، والقِبْلة الواحدة، والهدف الواحد: إسعادُ البشرية »بالهُدى والشِّفاء والنور والبرهان ». دينُ توحيدٍ بلا كهنوت، وإيمانٍ بلا خرافة، وجهاد بلا إرهاب، وعقلٍ بلا إلحاد، ودعوةٍ بلا تنفير، وتَدَيُّنٍ بلا تطرف، والتزام بلا تحجر، وسَلامٍ بلا استسلام، واختلاف بلا خلاف، وهوية بلا إقصاء، وحوار بلا تمييع، وانفتاح بلا ضياع، وتعدد بلا تبدد .
دينُ عقلٍ وقلب، دنيا وآخرة، روح ومادة، شورى وطاعة، شَرْعٍ وواقع. إنه دين عمل الخير وخير العمل: الدنيا فيه مزرعةُ الآخرة، والعبادةُ فيه طريق الحضارة، والمادة في خدمة الروح. الخيرُ فيه شِرْكَةٌ بين الناس، والعقلُ فيه دليل الإيمان، ورضوانُ الله فيه يُنال بخدمة عباده صالحين أو طالحين. أَوَ لَيْسَ هو دين { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} العصر:3
6- هذا هو الإسلام: الدينُ الخاتَم، بنهايته التي أعلنتها لحظةُ وفاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت بداية إعلان نُضج الإنسان، وأهْلِيَتِهِ لوراثة النبوة، إعلانُ نهاية نـزول الوحي، والغيب والمعجزات، وبدايةُ عهد العقل والفكر والاجتهاد والأخذِ بالأسباب وفق سُنَن الله في الكون، لتُصْبِح »إقرأ » و »لتعارفوا » و »انظروا » و »اعتصموا » ومثيلاتُها الكثيرة، مفاتيحَ التغيير، وعنوان الإنسان الكامل، المؤَهَّلِ للشهادة والرِّيادة والاستخلاف.
هذا هو الإسلام، ولا إسلامَ سواه، فإن تَوَهَّمَ مُتوهم غيرَه، فإنما ذلك »بانتحال المبطلين أو تحريف الغالين » وربما بإغراض المغرضِين!
بهذا الفهم نلقى الله، وهو وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أبو زيد المقرئ الإدريسي
عن التجديد